سورة فاطر - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (فاطر)


        


ثم ذكر سبحانه نوعاً من أنواع قدرته الباهرة، وخلقاً من مخلوقاته البديعة، فقال: {أَلَمْ تَرَ}، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لكلّ من يصلح له {أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء} وهذه الرؤية هي: القلبية، أي ألم تعلم، وأن واسمها وخبرها سدّت مسدّ المفعولين {فَأَخْرَجْنَا بِهِ} أي: بالماء، والنكتة في هذا الالتفات إظهار كمال العناية بالفعل لما فيه من الصنع البديع، وانتصاب {مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا} على الوصف لثمرات، والمراد بالألوان الأجناس، والأصناف، أي: بعضها أبيض، وبعضها أحمر، وبعضها أصفر، وبعضها أخضر، وبعضها أسود {وَمِنَ الجبال جُدَدٌ} الجدد جمع جدة، وهي: الطريق. قال الأخفش: ولو كان جمع جديد لقال جدد بضم الجيم والدال، نحو سرير وسرر. قال زهير:
كأنه أسفع الخدين ذو جدد *** طاوٍ ويرتع بعد الصيف أحياناً
وقيل: الجدد القطع، مأخوذ من جددت الشيء إذا قطعته، حكاه ابن بحر. قال الجوهري: الجدة: الخطة التي في ظهر الحمار تخالف لونه، والجدة الطريقة، والجمع جدد، وجدائد، ومن ذلك قول أبي ذؤيب:
جون السراة له جدائد أربع ***
قال المبرد: جدد: طرائق وخطوط. قال الواحدي: ونحو هذا قال المفسرون في تفسير الجدد.
وقال الفراء: هي: الطرق تكون في الجبال كالعروق بيض، وسود، وحمر، واحدها جدة. والمعنى: أن الله سبحانه أخبر عن جدد الجبال، وهي: طرائقها، أو الخطوط التي فيها بأن لون بعضها البياض، ولون بعضها الحمرة، وهو معنى قوله: {بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ ألوانها} قرأ الجمهور: {جدد} بضم الجيم، وفتح الدال. وقرأ الزهري بضمهما جمع جديدة، وروي عنه: أنه قرأ بفتحهما، وردّها أبو حاتم وصححها غيره، وقال: الجدد الطريق الواضح البين {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} الغربيب الشديد السواد الذي يشبه لونه لون الغراب. قال الجوهري: تقول هذا أسود غربيب، أي: شديد السواد، وإذا قلت غرابيب سود جعلت السود بدلاً من غرابيب. قال الفراء: في الكلام تقديم وتأخير تقديره: وسود غرابيب، لأنه يقال: أسود غربيب، وقلّ ما يقال: غربيب أسود، وقوله: {مُّخْتَلِف أَلْوَانُهَا} صفة لجدد، وقوله: {وَغَرَابِيبُ} معطوف على جدد على معنى: ومن الجبال جدد بيض، وحمر، ومن الجبال غرابيب على لون واحد، وهو: السواد، أو على حمر على معنى، ومن الجبال جدد بيض، وحمر، وسود. وقيل: معطوف على بيض، ولا بدّ من تقدير مضاف محذوف قبل جدد، أي: ومن الجبال ذو جدد، لأن الجدد إنما هي في ألوان بعضها.
{وَمِنَ الناس والدواب والأنعام مُخْتَلِفٌ ألوانه} قوله: {مختلف} صفة لموصوف محذوف، أي: ومنهم صنف، أو نوع، أو بعض مختلف ألوانه بالحمرة، والسواد، والبياض، والخضرة، والصفرة. قال الفراء، أي: خلق مختلف ألوانه كاختلاف الثمرات، والجبال، وإنما ذكر سبحانه اختلاف الألوان في هذه الأشياء، لأن هذا الاختلاف من أعظم الأدلة على قدرة الله، وبديع صنعه، ومعنى {كذلك} أي: مختلفاً مثل ذلك الاختلاف، وهو صفة لمصدر محذوف، والتقدير مختلف ألوانه اختلافاً كائناً كذلك، أي: كاختلاف الجبال، والثمار.
وقرأ الزهري: {والدواب} بتخفيف الباء. وقرأ ابن السميفع: {ألوانها}. وقيل: إن قوله: {كذلك} متعلق بما بعده، أي: مثل ذلك المطر، والاعتبار في مخلوقات الله، واختلاف ألوانها يخشي الله من عباده العلماء، وهذا اختاره ابن عطية، وهو مردود بأن ما بعد إنما لا يعمل فيما قبلها. والراجح الوجه الأوّل، والوقف على: {كذلك} تامّ. ثم استؤنف الكلام، وأخبر سبحانه بقوله: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} أو هو من تتمة قوله: {إِنَّمَا تُنذِرُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب} [فاطر: 18] على معنى إنما يخشاه سبحانه بالغيب العالمون به، وبما يليق به من صفاته الجليلة، وأفعاله الجميلة، وعلى كل تقدير، فهو: سبحانه قد عين في هذه الآية أهل خشيته، وهم: العلماء به، وتعظيم قدرته. قال مجاهد: إنما العالم من خشي الله عزّ وجلّ.
وقال مسروق: كفى بخشية الله علماً، وكفى بالاغترار جهلاً، فمن كان أعلم بالله كان أخشاهم له. قال الربيع بن أنس: من لم يخش الله، فليس بعالم.
وقال الشعبي: العالم من خاف الله، ووجه تقديم المفعول أن المقام مقام حصر الفاعلية، ولو أخر انعكس الأمر. وقرأ عمر بن عبد العزيز برفع الاسم الشريف، ونصب العلماء، ورويت هذه القراءة عن أبي حنيفة قال في الكشاف: الخشية في هذه القراءة استعارة، والمعنى: أنه يجلهم، ويعظمهم كما يجل المهيب المخشي من الرجال بين الناس، وجملة: {إِنَّ الله عَزِيزٌ غَفُورٌ} تعليل لوجوب الخشية لدلالته على أنه معاقب على معصيته غافر لمن تاب من عباده.
{إِنَّ الذين يَتْلُونَ كتاب الله} أي: يستمرّون على تلاوته، ويداومونها. والكتاب هو: القرآن الكريم، ولا وجه لما قيل: إن المراد به جنس كتب الله {وَأَقَامُواْ الصلاة} أي: فعلوها في أوقاتها مع كمال أركانها، وأذكارها {وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّا وَعَلاَنِيَةً} فيه حثّ على الإنفاق كيف ما تهيأ، فإن تهيأ سرّاً، فهو أفضل، وإلاّ فعلانية، ولا يمنعه ظنه أن يكون رياء، ويمكن أن يراد بالسرّ صدقة النفل، وبالعلانية صدقة الفرض، وجملة. {يَرْجُونَ تجارة لَّن تَبُورَ} في محل رفع على خبرية إنّ كما قال ثعلب، وغيره، والمراد بالتجارة ثواب الطاعة ومعنى {لَّن تَبُورَ}: لن تكسد، ولن تهلك، وهي صفة للتجارة، والإخبار برجائهم لثواب ما عملوا بمنزلة الوعد بحصول مرجوهم. واللام في: {لِيُوَفّيَهُمْ أُجُورَهُمْ} متعلق بلن تبور، على معنى: أنها لن تكسد لأجل أن يوفيهم أجور أعمالهم الصالحة، ومثل هذه الآية قوله سبحانه: {فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مّن فَضْلِهِ} [النساء: 173]. وقيل: إن اللام متعلقة بمحذوف دلّ عليه السياق: أي: فعلوا ذلك ليوفيهم، ومعنى {وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ} أنّه يتفضل عليهم بزيادة على أجورهم التي هي جزاء أعمالهم، وجملة {إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} تعليل لما ذكر من التوفية والزيادة: أي: غفور لذنوبهم شكور لطاعتهم، وقيل: إن هذه الجملة هي: خبر إنّ، وتكون جملة يرجون في محل نصب على الحال، والأوّل أولى.
{والذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الكتاب} يعني: القرآن. وقيل: اللوح المحفوظ على أن من تبعيضية، أو ابتدائية، وجملة: {هُوَ الحق} خبر الموصول و{مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} منتصب على الحال، أي: موافقاً لما تقدّمه من الكتب {إِنَّ الله بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} أي: محيط بجميع أمورهم {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا} المفعول الأوّل لأورثنا الموصول، والمفعول الثاني الكتاب، وإنما قدّم المفعول الثاني لقصد التشريف، والتعظيم للكتاب، والمعنى: ثم أورثنا الذين اصطفيناهم من عبادنا الكتاب، وهو: القرآن، أي: قضينا، وقدّرنا بأن نورث العلماء من أمتك يا محمد هذا الكتاب الذي أنزلناه عليك، ومعنى اصطفائهم: اختيارهم، واستخلاصهم، ولا شك أن علماء هذه الأمة من الصحابة، فمن بعدهم قد شرفهم الله على سائر العباد، وجعلهم أمة وسطاً؛ ليكونوا شهداء على الناس، وأكرمهم بكونهم أمة خير الأنبياء، وسيد ولد آدم. قال مقاتل: يعني: قرآن محمد جعلناه ينتهي إلى الذين اصطفينا من عبادنا. وقيل: إن المعنى: أورثناه من الأمم السالفة، أي: أخرناه عنهم، وأعطيناه الذين اصطفينا، والأوّل أولى. ثم قسم سبحانه هؤلاء الذي أورثهم كتابه، واصطفاهم من عباده إلى ثلاثة أقسام، فقال: {فَمِنْهُمْ ظالم لّنَفْسِهِ} قد استشكل كثير من أهل العلم معنى هذه الآية، لأنه سبحانه جعل هذا القسم الظالم لنفسه من ذلك المقسم، وهو من اصطفاهم من العباد، فكيف يكون من اصطفاه الله ظالماً لنفسه؟ فقيل: إن التقسيم هو راجع إلى العباد، أي: فمن عبادنا ظالم لنفسه، وهو: الكافر، ويكون ضمير {يدخلونها} عائداً إلى المقتصد والسابق. وقيل: المراد بالظالم لنفسه هو: المقصر في العمل به، وهو: المرجأ لأمر الله، وليس من ضرورة ورثة الكتاب مراعاته حقّ رعايته، لقوله: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الكتاب} [الأعراف: 169]، وهذا فيه نظر، لأن ظلم النفس لا يناسب الاصطفاء. وقيل: الظالم لنفسه: هو: الذي عمل الصغائر، وقد روي هذا القول عن عمر، وعثمان، وابن مسعود، وأبي الدرداء، وعائشة، وهذا هو الراجح، لأن عمل الصغائر لا ينافي الاصطفاء، ولا يمنع من دخول صاحبه مع الذين يدخلون الجنة يحلون فيها من أساور من ذهب إلى آخر ما سيأتي. ووجه كونه ظالماً لنفسه أنه نقصها من الثواب بما فعل من الصغائر المغفورة له، فإنه لو عمل مكان تلك الصغائر طاعات لكان لنفسه فيها من الثواب حظاً عظيماً.
وقيل: الظالم لنفسه هو: صاحب الكبائر.
وقد اختلف السلف في تفسير السابق، والمقتصد، فقال عكرمة، وقتادة، والضحاك: إن المقتصد المؤمن العاصي، والسابق التقيّ على الإطلاق، وبه قال الفراء، وقال مجاهد في تفسير الآية: {فَمِنْهُمْ ظالم لّنَفْسِهِ} أصحاب المشأمة {وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ}: أصحاب الميمنة {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات}: السابقون من الناس كلهم.
وقال المبرد: إن المقتصد هو الذي يعطي الدنيا حقها، والآخرة حقها.
وقال الحسن: الظالم الذي ترجح سيآته على حسناته، والمقتصد الذي استوت حسناته، وسيآته، والسابق من رجحت حسناته على سيآته.
وقال مقاتل: الظالم لنفسه أصحاب الكبائر من أهل التوحيد، والمقتصد الذي لم يصب كبيرة، والسابق الذي سبق إلى الأعمال الصالحة.
وحكى النحاس: أن الظالم صاحب الكبائر، والمقتصد الذي لم يستحق الجنة بزيادة حسناته على سيآته، فتكون جنات عدن يدخلونها للذين سبقوا بالخيرات لا غير، قال: وهذا قول جماعة من أهل النظر، لأن الضمير في حقيقة النظر لما يليه أولى.
وقال الضحاك. فيهم ظالم لنفسه، أي: من ذرّيتهم ظالم لنفسه.
وقال سهل بن عبد الله: السابق العالم، والمقتصد المتعلم، والظالم لنفسه الجاهل.
وقال ذو النون المصري: الظالم لنفسه الذاكر لله بلسانه فقط، والمقتصد الذاكر بقلبه، والسابق الذي لا ينساه.
وقال الأنطاكي: الظالم صاحب الأقوال، والمقتصد صاحب الأفعال، والسابق صاحب الأحوال.
وقال ابن عطاء: الظالم الذي يحب الله من أجل الدنيا، والمقتصد الذي يحب الله من أجل العقبى، والسابق الذي أسقط مراده بمراد الحقّ. وقيل: الظالم الذي يعبد الله خوفاً من النار، والمقتصد الذي يعبده طمعاً في الجنة، والسابق الذي يعبده لا لسبب. وقيل: الظالم الذي يحبّ نفسه، والمقتصد الذي يحبّ دينه، والسابق الذي يحبّ ربه. وقيل: الظالم الذي ينتصف ولا ينصف، والمقتصد الذي ينتصف، وينصف، والسابق الذي ينصف ولا ينتصف وقد ذكر الثعلبي، وغيره أقوالاً كثيرة، ولا شك أن المعاني اللغوية للظالم، والمقتصد، والسابق معروفة، وهو يصدق على الظلم للنفس بمجرّد إحرامها للحظ، وتفويت ما هو خير لها، فتارك الاستكثار من الطاعات قد ظلم نفسه باعتبار ما فوّتها من الثواب، وإن كان قائماً بما أوجب الله عليه تاركاً لما نهاه الله عنه، فهو من هذه الحيثية من اصطفاه الله، ومن أهل الجنة، فلا إشكال في الآية، ومن هذا قول آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} [الأعراف: 23]، وقول يونس: {إِنّى كُنتُ مِنَ الظالمين} [الأنبياء: 87]، ومعنى المقتصد: هو من يتوسط في أمر الدين، ولا يميل إلى جانب الإفراط، ولا إلى جانب التفريط، وهذا من أهل الجنة، وأما السابق، فهو: الذي سبق غيره في أمور الدين، وهو خير الثلاثة.
وقد استشكل تقديم الظالم على المقتصد، وتقديمهما على السابق مع كون المقتصد أفضل من الظالم لنفسه، والسابق أفضل منهما، فقيل: إن التقديم لا يقتضي التشريف كما في قوله: {لاَ يَسْتَوِى أصحاب النار وأصحاب الجنة} [الحشر: 20]، ونحوها من الآيات القرآنية التي فيها تقديم أهل الشرّ على أهل الخير، وتقديم المفضولين على الفاضلين. وقيل: وجه التقديم هنا: أن المقتصدين بالنسبة إلى أهل المعاصي قليل، والسابقين بالنسبة إلى الفريقين أقلّ قليل، فقدّم الأكثر على الأقلّ، والأوّل أولى، فإن الكثرة بمجرّدها لا تقتضي تقديم الذكر.
وقد قيل: في وجه التقديم غير ما ذكرنا مما لا حاجة إلى التطويل به.
والإشارة بقوله: {ذلك} إلى توريث الكتاب، والاصطفاء. وقيل: إلى السبق بالخيرات، والأوّل أولى، وهو مبتدأ، وخبره: {هُوَ الفضل الكبير} أي: الفضل الذي لا يقادر قدره. وارتفاع {جنات عَدْنٍ} على أنها مبتدأ، وما بعدها خبرها، أو على البدل من الفضل، لأنه لما كان هو السبب في نيل الثواب نزل منزلة المسبب، وعلى هذا، فتكون جملة: {يَدْخُلُونَهَا} مستأنفة، وقد قدّمنا: أن الضمير في يدخلونها يعود إلى الأصناف الثلاثة، فلا وجه لقصره على الصنف الأخير، وقرأ زرّ بن حبيش، والترمذي: {جنة} بالإفراد، وقرأ الجحدري: {جنات} بالنصب على الاشتغال، وجوّز أبو البقاء: أن تكون جنات خبراً ثانياً لاسم الإشارة، وقرأ أبو عمرو: {يدخلونها} على البناء للمفعول، وقوله: {يُحَلَّوْنَ} خبر ثان لجنات عدن، أو حال مقدّرة، وهو من حليت المرأة، فهي: حال، وفيه إشارة إلى سرعة الدخول، فإن في تحليتهم خارج الجنة تأخيراً للدخول، فلما قال: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا} أشار أن دخولهم على وجه السرعة {مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ} {من} الأولى تبعيضية، والثانية بيانية، أي: يحلون بعض أساور كائنة من ذهب، والأساور جمع أسورة جمع سوار، وانتصاب {لُؤْلُؤاً} بالعطف على محل {مِنْ أَسَاوِرَ} وقرئ بالجرّ عطفاً على ذهب {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} قد تقدّم تفسير الآية مستوفى في سورة الحج.
{وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذى أَذْهَبَ عَنَّا الحزن} قرأ الجمهور: {الحزن} بفتحتين. وقرأ جناح بن حبيش بضمّ الحاء، وسكون الزاي. والمعنى: أنهم يقولون هذه المقالة إذا دخلوا الجنة. قال قتادة: حزن الموت.
وقال عكرمة: حزن السيئات والذنوب، وخوف ردّ الطاعات.
وقال القاسم: حزن زوال النعم، وخوف العاقبة. وقيل: حزن أهوال يوم القيامة.
وقال الكلبي: ما كان يحزنهم في الدنيا من أمر يوم القيامة.
وقال سعيد بن جبير: همّ الخبز في الدنيا. وقيل: همّ المعيشة.
وقال الزجاج: أذهب الله عن أهل الجنة كل الأحزان ما كان منها لمعاش، أو معاد. وهذا أرجح الأقوال، فإن الدنيا، وإن بلغ نعيمها أيّ بلغ لا تخلو من شوائب ونوائب تكثر لأجلها الأحزان، وخصوصاً أهل الإيمان، فإنهم لا يزالون وجلين من عذاب الله خائفين من عقابه، مضطربي القلوب في كل حين، هل تقبل أعمالهم أو تردّ؟ حذرين من عاقبة السوء، وخاتمة الشرّ، ثم لا تزال همومهم وأحزانهم حتى يدخلوا الجنة.
وأما أهل العصيان: فهم، وإن نفس عن خناقهم قليلاً في حياة الدنيا التي هي دار الغرور، وتناسوا دار القرار يوماً من دهرهم، فلا بدّ أن يشتدّ وجلهم، وتعظم مصيبتهم، وتغلي مراجل أحزانهم إذا شارفوا الموت، وقربوا من منازل الآخرة، ثم إذا قبضت أرواحهم، ولاح لهم ما يسؤوهم من جزاء أعمالهم ازدادوا غماً، وحزناً، فإن تفضل الله عليهم بالمغفرة، وأدخلهم الجنة، فقد أذهب عنهم أحزانهم، وأزال غمومهم، وهمومهم {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} أي: غفور لمن عصاه، شكور لمن أطاعه. {الذى أَحَلَّنَا دَارَ المقامة مِن فَضْلِهِ} أي: دار الإقامة التي يقام فيها أبداً، ولا ينتقل عنها تفضلاً منه ورحمة. {لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ} أي: لا يصيبنا في الجنة عناء، ولا تعب، ولا مشقة {وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ}، وهو: الإعياء من التعب، والكلال من النصب.
وقد أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا} قال: الأبيض، والأحمر، والأسود، وفي قوله: {وَمِنَ الجبال جُدَدٌ} قال: طرائق {بَيْضٌ} يعني: الألوان.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: الغربيب الأسود الشديد السواد.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله: {وَمِنَ الجبال جُدَدٌ} قال: طرائق تكون في الجبل بيض {وَحُمْرٌ} فتلك الجدد {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} قال: جبال سود {وَمِنَ الناس والدواب والأنعام} قال: {كذلك} اختلاف الناس، والدوّابّ، والأنعام كاختلاف الجبال، ثم قال: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} قال: فصل لما قبلها.
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} قال: العلماء بالله الذين يخافونه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه في الآية قال: الذين يعلمون أن الله على كل شيء قدير.
وأخرج ابن أبي حاتم، وابن عدّي عن ابن مسعود قال: ليس العلم من كثرة الحديث، ولكن العلم من الخشية.
وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد في الزهد، وعبد بن حميد، والطبراني عنه قال: كفى بخشية الله علماً، وكفى باغترار بالله جهلاً.
وأخرج أحمد في الزهد عنه أيضاً قال: ليس العلم بكثرة الرواية، ولكن العلم الخشية.
وأخرج ابن أبي شيبة عن حذيفة قال: بحسب المؤمن من العلم أن يخشى الله.
وأخرج عبد الغني بن سعيد الثقفي في تفسيره عن ابن عباس: أن حصين بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف نزلت فيه {إِنَّ الذين يَتْلُونَ كتاب الله وَأَقَامُواْ الصلاة} الآية.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في البعث عن ابن عباس في قوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا} قال: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ورثهم الله كل كتاب أنزل، فظالمهم مغفور له، ومقتصدهم يحاسب حساباً يسيراً، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب.
وأخرج الطيالسي، وأحمد، وعبد بن حميد، والترمذي وحسنه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري، عن النبيّ أنه قال في هذه الآية: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظالم لّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات} قال: «هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة، وكلهم يدخلون الجنة» وفي إسناده رجلان مجهولان. قال الإمام أحمد في مسنده قال: حدّثنا شعبة عن الوليد بن العيزار: أنه سمع رجلاً من ثقيف يحدّث عن رجل من كنانة عن أبي سعيد.
وأخرج الفريابي، وأحمد، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم، وابن مردويه، والبيهقي في البعث عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظالم لّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات بِإِذُنِ الله} فأما الذين سبقوا، فأولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب. وأما الذين اقتصدوا، فأولئك يحاسبون حساباً يسيراً. وأما الذين ظلموا أنفسهم، فأولئك الذين يحبسون في طول المحشر، ثم هم الذين تلافاهم الله برحمته، فهم الذين يقولون: {الحمد للَّهِ الذى أَذْهَبَ عَنَّا الحزن إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ}» إلى آخر الآية. قال البيهقي: إذا كثرت روايات في حديث ظهر أن للحديث أصلاً. ا. ه، وفي إسناد أحمد محمد بن إسحاق، وفي إسناد ابن أبي حاتم رجل مجهول، لأنه رواه من طريق الأعمش، عن رجل، عن أبي ثابت، عن أبي الدرداء، ورواه ابن جرير، عن الأعمش قال: ذكر أبو ثابت.
وأخرج ابن أبي حاتم، والطبراني عن عوف بن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أمتي ثلاثة أثلاث: فثلث يدخلون الجنة بغير حساب، وثلث يحاسبون حساباً يسيراً، ثم يدخلون الجنة، وثلث يمحصون، ويكشفون، ثم تأتي الملائكة، فيقولون وجدناهم يقولون: لا إله إلاّ الله وحده، فيقول الله: أدخلوهم الجنة بقولهم لا إله إلاّ الله وحده، واحملوا خطاياهم على أهل التكذيب، وهي: التي قال الله: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13]، وتصديقها في التي ذكر في الملائكة. قال الله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا} فجعلهم ثلاثة أفواج. فمنهم ظالم لنفسه، فهذا الذي يكشف، ويمحص، ومنهم مقتصد، وهو الذي يحاسب حساباً يسيراً. ومنهم سابق بالخيرات، فهو الذي يلج الجنة بغير حساب ولا عذاب، بإذن الله يدخلونها جميعاً»
قال ابن كثير بعد ذكر هذا الحديث: غريب جدًّا ا ه. وهذه الأحاديث يقوّي بعضها بعضاً، ويجب المصير إليها، ويدفع بها قول من حمل الظالم لنفسه على الكافر، ويؤيدها ما أخرجه الطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في البعث عن أسامة بن زيد: {فَمِنْهُمْ ظالم لّنَفْسِهِ} الآية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلهم من هذه الأمة، وكلهم في الجنة» وما أخرجه الطيالسي، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، والطبراني في الأوسط، والحاكم، وابن مردويه عن عقبة بن صهبان قال: قلت لعائشة: أرأيت قول الله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب} الآية، قالت: أما السابق، فمن مضى في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشهد له بالجنة. وأما المقتصد، فمن تبع آثارهم، فعمل بمثل عملهم حتى لحق بهم. وأما الظالم لنفسه، فمثلي، ومثلك، ومن اتبعنا، وكلّ في الجنة.
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود قال: هذه الأمة ثلاثة أثلاث يوم القيامة: ثلث يدخلون الجنة بغير حساب، وثلث يحاسبون حساباً يسيراً، وثلث يجيئون بذنوب عظام إلاّ أنهم لم يشركوا، فيقول الربّ: أدخلوا هؤلاء في سعة رحمتي، ثم قرأ: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب} الآية.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، والبيهقي في البعث عن عمر بن الخطاب: أنه كان إذا نزع بهذه الآية: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب} قال: ألا إن سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له.
وأخرجه العقيلي، وابن مردويه، والبيهقي في البعث من وجه آخر عنه مرفوعاً.
وأخرجه ابن النجار من حديث أنس مرفوعاً.
وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال: السابق بالخيرات يدخل الجنة بغير حساب، والمقتصد يدخل الجنة برحمة الله، والظالم لنفسه، وأصحاب الأعراف يدخلون الجنة بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن عثمان بن عفان: أنه نزع بهذه الآية، ثم قال: ألا إن سابقنا أهل جهادنا، ألا وإن مقتصدنا أهل حضرنا، ألا وإن ظالمنا أهل بدونا.
وأخرج سعيد بن منصور، والبيهقي في البعث عن البراء بن عازب في قوله: {فَمِنْهُمْ ظالم لّنَفْسِهِ} الآية قال: أشهد على الله أنه يدخلهم جميعاً الجنة.
وأخرج الفريابي، وابن جرير، وابن مردويه عنه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا} قال: كلهم ناج، وهي هذه الأمة.
وأخرج الفريابي، وعبد بن حميد، عن ابن عباس في الآية قال: هي مثل التي في الواقعة {أصحاب الميمنة}، و{أصحاب المشأمة}. و{السابقون}: صنفان ناجيان، وصنف هالك.
وأخرج الفريابي، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، والبيهقي عنه في قوله: {فَمِنْهُمْ ظالم لّنَفْسِهِ} قال: هو الكافر، والمقتصد أصحاب اليمين.
وهذا المرويّ عنه رضي الله عنه لا يطابق ما هو الظاهر من النظم القرآني، ولا يوافق ما قدّمنا من الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن جماعة من الصحابة.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن عبد الله بن الحارث: أن ابن عباس سأل كعباً عن هذه الآية، فقال: نجوا كلهم، ثم قال: تحاكت مناكبهم، وربّ الكعبة، ثم أعطوا الفضل بأعمالهم، وقد قدّمنا عن ابن عباس ما يفيد أن الظالم لنفسه من الناجين، فتعارضت الأقوال عنه.
وأخرج الترمذي، والحاكم وصححه، والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري: أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله: {جنات عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً}، فقال: إن عليهم التيجان، إن أدنى لؤلؤة منها لتضيء ما بين المشرق والمغرب.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَقَالُواْ الحمد للَّهِ} الآية قال: هم قوم في الدنيا يخافون الله، ويجتهدون له في العبادة سرًّا، وعلانية، وفي قلوبهم حزن من ذنوب قد سلفت منهم، فهم خائفون أن لا يتقبل منهم هذا الاجتهاد من الذنوب التي سلفت، فعندها {قَالُواْ الحمد للَّهِ الذى أَذْهَبَ عَنَّا الحزن إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} غفر لنا العظيم، وشكر لنا القليل من أعمالنا.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عنه في الآية قال: حزن النار.


ثم لما فرغ سبحانه من ذكر جزاء عباده الصالحين، ذكر جزاء عباده الطالحين، فقال: {والذين كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يقضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ} أي: لا يقضي عليهم بالموت، فيموتوا، ويستريحوا من العذاب {وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مّنْ عَذَابِهَا} بل {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بدلناهم جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب} [النساء: 56] وهذه الآية هي مثل قوله سبحانه: {لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يحيى} [الأعلى: 13]. قرأ الجمهور: {فيموتوا} بالنصب جواباً للنفي، وقرأ عيسى بن عمر، والحسن بإثبات النون. قال المازني: على العطف على {يقضى}.
وقال ابن عطية: هي قراءة ضعيفة، ولا وجه لهذا التضعيف بل هي كقوله: {وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 36]. {كَذَلِكَ نَجْزِى كُلَّ كَفُورٍ} أي: مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي كل من هو مبالغ في الكفر، وقرأ أبو عمرو: {نجزي} على البناء للمفعول. {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا} من الصراخ، وهو: الصياح، أي: وهم يستغيثون في النار رافعين أصواتهم، والصارخ: المستغيث، ومنه قول الشاعر:
كنا إذا ما أتانا صارخ فزع *** كان الصارخ له قرع الطنابيب
{رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صالحا غَيْرَ الذى كُنَّا نَعْمَلُ} أي: وهم فيها يصطرخون يقولون: {ربنا} إلخ. قال مقاتل: هو: أنهم ينادون: {ربنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل}: من الشرك والمعاصي، فنجعل الإيمان منا بدل ما كنا عليه من الكفر، والطاعة بدل المعصية، وانتصاب {صالحاً} على أنه صفة لمصدر محذوف، أي: عملاً صالحاً، أو صفة لموصوف محذوف، أي: نعمل شيئاً صالحاً. قيل: وزيادة قوله: {غَيْرَ الذى كُنَّا نَعْمَلُ} للتحسر على ما عملوه من غير الأعمال الصالحة مع الاعتراف منهم بأن أعمالهم في الدنيا كانت غير صالحة، فأجاب الله سبحانه عليهم بقوله: {أَوَ لَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ} والاستفهام للتقريع، والتوبيخ، والواو للعطف على مقدّر كما في نظائره، وما نكرة موصوفة، أي: أو لم نعمّركم عمراً يتمكن من التذكر فيه من تذكر. فقيل: هو ستون سنة. وقيل: أربعون. وقيل: ثماني عشرة سنة. قال بالأوّل جماعة من الصحابة، وبالثاني الحسن، ومسروق، وغيرهما. وبالثالث عطاء، وقتادة. وقرأ الأعمش: {ما يذكر} بالإدغام {وَجَاءكُمُ النذير} قال الواحدي: قال جمهور المفسرين: هو النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال عكرمة، وسفيان بن عيينة، ووكيع، والحسن بن الفضل، والفرّاء، وابن جرير: هو: الشيب، ويكون معناه على هذا القول: أو لم نعمّركم حتى شبتم. وقيل: هو القرآن، وقيل: الحمى. قال الأزهري: معناه: أن الحمى رسول الموت، أي: كأنها تشعر بقدومه، وتنذر بمجيئه، والشيب نذير أيضاً، لأنه يأتي في سنّ الاكتهال، وهو علامة لمفارقة سنّ الصبا الذي هو سنّ اللهو واللعب. وقيل: هو موت الأهل، والأقارب.
وقيل: هو كمال العقل. وقيل: البلوغ {فَذُوقُواْ فَمَا للظالمين مِن نَّصِيرٍ} أي: فذوقوا عذاب جهنم، لأنكم لم تعتبروا، ولم تتعظوا، فما لكم ناصر يمنعكم من عذاب الله، ويحول بينكم وبينه. قال مقاتل، فذوقوا العذاب، فما للمشركين من مانع يمنعهم.
{إِنَّ الله عالم غَيْبِ السموات والأرض} قرأ الجمهور بإضافة {عالم} إلى {غيب}، وقرأ جناح بن حبيش بالتنوين، ونصب غيب. والمعنى: أنه عالم بكل شيء، ومن ذلك أعمال لا تخفى عليه منها خافية، فلو ردّكم إلى الدنيا لم تعملوا صالحاً كما قال سبحانه: {وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} [الأنعام: 28]. {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} تعليل لما قبله، لأنه إذا علم مضمرات الصدور، وهي أخفى من كل شيء علم ما فوقها بالأولى. وقيل: هذه الجملة مفسرة للجملة الأولى {هُوَ الذى جَعَلَكُمْ خلائف فِى الأرض} أي: جعلكم أمة خالفة لمن قبلها. قال قتادة: خلفاً بعد خلف، وقرناً بعد قرن، والخلف: هو التالي للمتقدّم. وقيل: جعلكم خلفاءه في أرضه {فَمَن كَفَرَ} منكم هذه النعمة {فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} أي: عليه ضرر كفره، لا يتعدّاه إلى غيره {وَلاَ يَزِيدُ الكافرين كُفْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً} أي: غضباً، وبغضاً {وَلاَ يَزِيدُ الكافرين كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَاراً} أي: نقصاً وهلاكاً، والمعنى: أن الكفر لا ينفع عند الله حيث لا يزيدهم إلاّ المقت، ولا ينفعهم في أنفسهم حيث لا يزيدهم إلاّ الخسار.
ثم أمره سبحانه أن يوبخهم، ويبكتهم، فقال: {قُلْ أَرَءيْتُمْ شُرَكَاءكُمُ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله} أي: أخبروني عن الشركاء الذين اتخذتموهم آلهة، وعبدتموهم من دون الله، وجملة {أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض} بدل اشتمال من أرأيتم، والمعنى: أخبروني عن شركائكم، أروني أيّ شيء خلقوا من الأرض؟ وقيل: إن الفعلان، وهما أرأيتم، وأروني من باب التنازع.
وقد أعمل الثاني على ما هو اختيار البصريين {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى السموات} أي: أم لهم شركة مع الله في خلقها، أو ملكها، أو التصرف فيها حتى يستحقوا بذلك الشركة في الإلهية {قُلْ أَرَءيْتُمْ شُرَكَاءكُمُ} أي: أم أنزلنا عليهم كتاباً بالشركة {فَهُمْ على بينات مِنْهُ} أي: على حجة ظاهرة واضحة من ذلك الكتاب. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، وحفص عن عاصم: {بينة} بالتوحيد، وقرأ الباقون بالجمع. قال مقاتل: يقول: هل أعطينا كفار مكة كتاباً، فهم على بيان منه بأن مع الله شريكاً. ثم أضرب سبحانه عن هذا إلى غيره، فقال: {بَلْ إِن يَعِدُ الظالمون بَعْضُهُم بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً} أي: ما يعد الظالمون بعضهم بعضاً، كما يفعله الرّؤساء، والقادة من المواعيد لأتباعهم إلاّ غروراً يغرونهم به، ويزينونه لهم، وهو الأباطيل التي تغرّ، ولا حقيقة لها، وذلك قولهم: إن هذه الآلهة تنفعهم، وتقرّبهم إلى الله، وتشفع لهم عنده.
وقيل: إن الشياطين تعد المشركين بذلك. وقيل: المراد بالوعد الذي يعد بعضهم بعضاً هو: أنهم ينصرون على المسلمين، ويغلبونهم.
وجملة. {إِنَّ الله يُمْسِكُ السموات والأرض أَن تَزُولاَ} مستأنفة لبيان قدرة الله سبحانه، وبديع صنعه بعد بيان ضعف الأصنام، وعدم قدرتها على شيء. وقيل: المعنى: إن شركهم يقتضي زوال السماوات والأرض كقوله: {تَكَادُ السموات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً} [مريم: 90 91] {وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مّن بَعْدِهِ} أي: ما أمسكهما من أحد من بعد إمساكه، أو من بعد زوالهما، والجملة سادّة مسدّ جواب القسم والشرط، ومعنى: {أَن تَزُولاَ}: لئلا تزولا، أو كراهة أن تزولا. قال الزجاج: المعنى: أن الله يمنع السماوات والأرض من أن تزولا، فلا حاجة إلى التقدير. قال الفرّاء، أي: ولو زالتا ما أمسكهما من أحد، قال: وهو مثل قوله: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَّظَلُّواْ مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ} [الروم: 51]. وقيل: المراد زوالهما يوم القيامة، وجملة: {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} تعليل لما قبلها من إمساكه تعالى للسماوات، والأرض.
{وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أهدى مِنْ إِحْدَى الأمم} المراد قريش، أقسموا قبل أن يبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم بهذا القسم حين بلغهم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم، ومعنى: {مِنْ إِحْدَى الأمم} يعني: المكذبة للرسل، والنذير: النبيّ، والهدى: الاستقامة، وكانت العرب تتمنى: أن يكون منهم رسول كما كان الرسل في بني إسرائيل {فَلَمَّا جَاءهُمُ} ما تمنوه، وهو: رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو أشرف {نَّذِيرٍ}، وأكرم مرسل، وكان من أنفسهم {مَّا زَادَهُمْ} مجيئه {إِلاَّ نُفُورًا} منهم عنه، وتباعداً عن إجابته.
{استكبارا فِى الأرض} أي: لأجل الاستكبار، والعتوّ ولأجل {مَكَرَ السيئ} أي: مكر العمل السيئ، أو مكروا المكر السيئ، والمكر هو: الحيلة، والخداع، والعمل القبيح، وأضيف إلى صفته كقوله: مسجد الجامع، وصلاة الأولى، وأنث {إحدى} لكون أمة مؤنثة كما قال الأخفش. وقيل: المعنى: من إحدى الأمم على العموم. وقيل: من الأمة التي يقال لها إحدى الأمم تفضيلاً لها. قرأ الجمهور: {ومكر السيئ} بخفض همزة السيئ. وقرأ الأعمش، وحمزة بسكونها وصلا.
وقد غلط كثير من النحاة هذه القراءة، ونزهوا الأعمش على جلالته أن يقرأ بها، قالوا: وإنما كان يقف بالسكون، فغلط من روي عنه: أنه كان يقرأ بالسكون وصلا، وتوجيه هذه القراءة ممكن، بأن من قرأ بها أجرى الوصل مجرى الوقف كما في قول الشاعر:
فاليوم أشرب غير مستحقب *** إثماً من الله ولا واغل
بسكون الباء من أشرب، ومثله قراءة من قرأ: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} [الأنعام: 109] بسكون الراء، ومثل ذلك قراءة أبي عمرو: {إلى بَارِئِكُمْ} [البقرة: 54] بسكون الهمزة، وغير ذلك كثير. قال أبو علي الفارسي: هذا على إجراء الوصل مجرى الوقف، وقرأ ابن مسعود: {ومكراً سيئاً}. {وَلاَ يَحِيقُ المكر السيئ إِلاَّ بِأَهْلِهِ} أي: لا تنزل عاقبة السوء إلاّ بمن أساء. قال الكلبي: يحيق بمعنى: يحيط، والحوق الإحاطة، يقال: حاق به كذا إذا أحاط به، وهذا هو الظاهر من معنى يحيق في لغة العرب، ولكن قطرب فسره هنا بينزل، وأنشد:
وقد رفعوا المنية فاستقلت *** ذراعاً بعد ما كانت تحيق
أي: تنزل. {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتُ الأولين} أي: فهل ينتظرون إلاّ سنة الأوّلين؟ أي: سنة الله فيهم بأن ينزل بهؤلاء العذاب كما نزل بأولئك {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً} أي: لا يقدر أحد أن يبدلّ سنّة الله التي سنّها بالأمم المكذبة من إنزال عذابه بهم بأن يضع موضعه غيره بدلاً عنه {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَحْوِيلاً} بأن يحوّل ما جرت به سنّة الله من العذاب، فيدفعه عنهم، ويضعه على غيرهم، ونفي وجدان التبديل والتحويل عبارة عن نفي وجودهما.
{أَوَ لَمْ يَسِيرُواْ فِى الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِمْ} هذه الجملة مسوقة لتقرير معنى ما قبلها، وتأكيده، أي: ألم يسيروا في الأرض، فينظروا ما أنزلنا بعاد، وثمود، ومدين، وأمثالهم من العذاب لما كذبوا الرسل، فإن ذلك هو من سنّة الله في المكذبين التي لا تبدّل، ولا تحوّل، وآثار عذابهم، وما أنزل الله بهم موجودة في مساكنهم ظاهرة في منازلهم والحال: أن أولئك {كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} وأطول أعماراً، وأكثر أموالاً، وأقوى أبداناً {وَمَا كَانَ الله لِيُعْجِزَهُ مِن شَئ فِى السموات وَلاَ فِى الأرض} أي: ما كان ليسبقه ويفوته من شيء من الأشياء كائناً ما كان فيهما {إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} أي: كثير العلم، وكثير القدرة لا يخفى عليه شيء، ولا يصعب عليه أمر {وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِمَا كَسَبُواْ} من الذنوب، وعملوا من الخطايا {مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا} أي: الأرض {مِن دَابَّةٍ} من الدوابّ التي تدبّ كائنة ما كانت، أما بنو آدم فلذنوبهم، وأما غيرهم فلشؤم معاصي بني آدم. وقيل: المراد ما ترك على ظهر الأرض من دابة تدبّ من بني آدم والجنّ، وقد قال بالأوّل ابن مسعود، وقتادة، وقال بالثاني الكلبي.
وقال ابن جريج، والأخفش، والحسين بن الفضل: أراد بالدابة هنا الناس وحدهم دون غيرهم {ولكن يُؤَخِرُهُمْ إلى أَجَلٍ مسمى}، وهو: يوم القيامة {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ الله كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً} أي: بمن يستحق منهم الثواب، ومن يستحق منهم العقاب، والعامل في إذا هو جاء لا بصيراً، وفي هذا تسلية للمؤمنين، ووعيد للكافرين.
وقد أخرج عبد الرزاق، والفريابي، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في السنن عن ابن عباس في قوله: {أَوَ لَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ} قال: ستين سنة.
وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان يوم القيامة قيل: أين أبناء الستين؟ وهو العمر الذي قال الله: أو لم نعمّركم ما يتذكر فيه من تذكر» وفي إسناده إبراهيم بن الفضل المخزومي، وفيه مقال.
وأخرج أحمد، وعبد بن حميد، والبخاري، والنسائي، والبزار، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم، وابن مردويه، والبيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعذر الله إلى امرئ أخر عمره حتى بلغ ستين سنة».
وأخرج عبد بن حميد، والطبراني، والحاكم، وابن مروديه عن سهل بن سعد مرفوعاً نحوه.
وأخرج ابن جرير، عن عليّ بن أبي طالب قال: العمر الذي عيرهم الله به ستون سنة.
وأخرج الترمذي، وابن ماجه، والحاكم، وابن المنذر، والبيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك» قال الترمذي بعد إخراجه: حسن غريب لا نعرفه إلاّ من هذا الوجه، ثم أخرجه في موضع آخر من كتاب الزهد، وقال: هذا حديث حسن غريب من حديث أبي صالح عن أبي هريرة، وقد روي من غير وجه عنه.
وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عن ابن عباس في هذه الآية قال: هو: ستّ وأربعون سنة.
وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال: العمر الذي أعذر الله إلى ابن آدم فيه بقوله: {أَوَ لَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ} أربعون سنة.
وأخرج أبو يعلى، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والدارقطني في الأفراد، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات، والخطيب في تاريخه عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: «قال: وقع في نفس موسى هل ينام الله عزّ وجلّ؟ فأرسل الله إليه ملكاً، فأرّقه ثلاثاً، وأعطاه قارورتين في كلّ يد قارورة، وأمره أن يحتفظ بهما، فجعل ينام، وتكاد يداه تلتقيان، ثم يستيقظ، فيحبس إحداهما على الأخرى حتى نام نومة، فاصطفقت يداه وانكسرت القارورتان. قال: ضرب الله له مثلاً إن الله تبارك وتعالى لو كان ينام لم تستمسك السماء، والأرض» وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن سلام: أن موسى قال: يا جبريل هل ينام ربك؟ فذكر نحوه.
وأخرجه أبو الشيخ في العظمة، والبيهقي عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه: أن موسى، فذكر نحوه.
وأخرج الفريابي، وابن المنذر، والطبراني، والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: إنه كاد الجعل ليعذب في جحره بذنب ابن آدم، ثم قرأ: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ} الآية.

1 | 2